خريطة العالم عند ميلاد النبي محمد.. كيف كانت ملامحها سياسياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً؟ ما القوى الكبرى التي كانت تسيطر على العالم.. كيف كان الظلم والقهر والتمييز العرقي، وكيف كانت القيم والأخلاق السائدة في ذلك العالم المرعب الذي تحكمه آلهة من الطغاة الجبابرة، من القياصرة والأكاسرة؟
أن معرفة أحوال العالم في القرن السادس وقبيل ميلاد الحبيب البشير تجعلنا نفهم الكثير من أسس الإسلام وأحكامه، وكيف أعاد النبي الحياة والنور للكرة الأرضية ليكون بحق رحمة للعالمين.
خريطة العالم سياسياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً ؛ كانت حاجة الإنسانية لدين جديد ورسول بعظمة سيدنا محمد "عليه الصلاة والسلام".
: تعالوا نلقي نظرة على الأرض سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم.... هناك ثلاث دوائر: الدائرة الواسعة هي قوى العالم، والدائرة الصغرى الجزيرة العربية، أما الدائرة الأصغر فهي مكة.
أما عن صورة العالم يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فأهمية إلقاء نظرة عليها هو فهم الآية الكريمة "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" فهو الذي أعاد الحياة للكرة الأرضية بكونه رحمة للعالمين.. كذلك نفهم قول الله تعالى: "لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم".
في عام 570 الميلادي الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم قال مؤرخو أوروبا إن العالم كانت تسيطر عليه إمبراطوريتان عظيمتان هما الفرس والروم، وكل إمبراطورية كانت تسيطر تقريباً على نصف العالم.
بالنسبة للروم.. كان الوضع السياسي قائماً على أن الرومان دولة استعمارية كبيرة، شديدة الظلم وكان ظلم الرومان للشعوب أضعاف ما نراه من ظلم في عصرنا الحالي.. كان هناك أبشع أنواع الاضطهاد العرقي، أدت الضرائب الباهظة التي فرضتها الامبراطورية إلى فقر شديد لكل الشعوب التي تحكمها الامبراطورية وثراء رهيب للجنس الروماني المحتل، وكانت الشام ومصر خاضعتين لحكم هذه الامبراطورية، وتحت سطوة الإتاوات التي تحصل لصالح الرومان.
كان هناك تفاوت طبقي رهيب وصراع غير متكافئ بين الطبقة العليا وبين طبقات الشعوب المعدمة والفقيرة وقد حدث خلال الثورة على عهد جستين الأول عام 532 الميلادي قتال وحشي سقط فيه 30 ألف قتيل في القسطنطينية في يوم واحد، ويقول المؤرخون إن مصر كانت أشقى بلاد العالم آنذاك بسبب الضرائب والإذلال والاضطهاد الديني، وكان مصير زعماء الأقباط في مصر إما القتل أو النفي أو السجن ولهذا السبب فتح عمرو بن العاص مصر بأربعة آلاف جندي فقط، لأنه كان يعلم كيف يعاني المصريون من الرومان.
تقديس القياصرة!
أما الحالة الاجتماعية في الامبراطورية، فقد كانت الشعوب المحتلة تعاني فقراً شديداً في مقابل الترف والشهوات غير الآدمية والانحلال الخلقي بين الرومان، وكانت المرأة ليست سوى آلة جنسية مثل الجماد وقد وصل اللهو بها وبكل المستضعفين إلى درجة الوحشية كانوا يقيمون ميادين للرياضة يتسع الواحد منها لـ 80 ألف مشاهد، ثم يقيمون مباراة للمصارعة تنتهي بموت أحد المتصارعين تخيلوا الترف الوحشي في اللعب، وأحياناً تقام المصارعة بين رجل وأسد أو نمر، ولابد من قتل أحد المتصارعين، كما يحدث في مصارعة الثيران بإسبانيا حالياً، لدرجة أن بعض الحيوانات تعرضت للانقراض بسبب كثرة استخدامها في تلك اللعبة الجهنمية.
فتخيلوا انهيار الفطرة، لابد لكي تجتمع الناس لتضحك وتتسلى أن يقتل أحدهما الآخر.
أما عن الدين.. فقد تحول من عبادة سمحة يعبد فيها الإنسان ربه، إلى مناقشات جدلية عقيمة وفلسفات وخلافات بين المذاهب تصل إلى حد اشتعال الحروب بين أصحاب الدين الواحد.
وكان نصارى مصر والشام يعانون من اضطهاد ديني شديد لاختلاف مذهبهم عن عقيدة الرومان التي وصلت إلى حد تقديس القياصرة، وكانت الناس تسجد لقيصر ملك الروم.
هناك كتاب اسمه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" لأبي الحسن الندوى – هندي الجنسية – تحدث فيه عن وضع وصورة العالم عند ميلاد النبي الكريم، قال فيه إن الشعوب فقدت كرامتها من الذل والمهانة، وفقدت أخلاقها بسبب الفقر الشديد، وضاعت تعاليم المسيح التي غرسها عليه السلام قبل 600 عام، وحدث تراكم عبر مئات السنين من فقد الكرامة والأخلاق.
مظالم الفرس
كان الفرس يحتلون نصف العالم الآخر ويحكمونه بالحديد والنار والظلم الشديد، نفس ما كان يطبقه الرومان: ضرائب باهظة، إتاوات، وكانوا يقسمون المجتمع رسمياً إلى طبقات: طبقة الملوك الأكاسرة وطبقة الكهنة ثم تأتي باقي طبقات الشعب المقهورة.
وكان الملك الفارسي يُخاطب بلفظ الإله. ويُذكر أن "يسدجر" آخر ملوك الفرس حين فرّ من عاصمته أمام فتح المسلمين لبلاده، أخذ معه ألفاً من حاشيته من الطهاة والمغنين ومدربي النمور والأسود والخدم، وكان يبكي لقلة الحاشية المصاحبة له، بينما كان أفراد شعبه لا يجدون ما يستر عوراتهم.
الناس تظن أن المدينة الحديثة والشهوات الموجودة في الغرب وعواصم القمار والزنا في لاس فيجاس وغيرها، لم تحدث في التاريخ قبل ذلك، لكن سعار الشهوة الذي يُمرّغ النفس البشرية في الوحل والطين موجود منذ القدم وإن اختلف الشكل وتباينت الوسائل، كان المجوس يعبدون النار الني يشعلونها ثم يطفئونها، ثم قرروا عدم إطفائها بعمل نوبتجيات في المعابد لاستمرار اشتعالها، كذلك أحل الفرس زواج المحارم، لدرجة أن يسدجر الثاني تزوج أخته ثم قتلها، وكانوا يظنون أن في عروق الأكاسرة يجري دم إلهي.. إلى هذه الدرجة وصلت الشعوذة والانحطاط الديني.. وكان للملوك والكهنة حق في أموال الشعب ونسائه.
من هذا الواقع المر ووسط هذا الظلام الحالك، وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الواقع أشد حلكة مما نحن عليه الآن، وقد جاء النبي بالأمل في تبديد هذا الظلام.
مات أبوه وأمه.. ولم يكن له أخوة ولا أولاد.. ومع ذلك خاض معركة إصلاح الدنيا، ولم يقل "ما فيش فايدة" ولم ييأس.
انحطاط الحضارة في الهند
أما باقي الحضارات التي كانت موجودة بأحجام أقل من الفرس والروم، مثل حضارة الهند، يؤكد المؤرخون أن أحط فترات الحضارة الهندية دينياً وخلقياً واجتماعياً كانت فترة القرن السادس الميلادي. أي قبل مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة. واتفق المؤرخون على اختلاف مشاربهم أن هذه الفترة كانت أسوأ فترة في حياة العالم وأكثرها انحطاطاً وظلماً وظلاماً، سواء في بلاد الروم أو الفرس أو الهند أو أوروبا، ثم جاء الأمل للبشرية، جاء محمد ليصلح هذه الدنيا في 25 سنة.
وقد كان من مظاهر انحطاط الحضارة في الهند أن المرأة التي يموت زوجها تقوم بحرق نفسها، لأنها ستلاقي الهوان بعد موته، ولأنها ليس لها قيمة في الحياة والمجتمع آنذاك.
وكانت الديانات في الهند قد فاق عددها 200 ديانة وكان غياب العقل عندهم، قد جعلهم يعبدون أي شىء يعجبهم شكله، لدرجة أنهم وصل بهم الانحلال الخلقي إلى عبادة الرجال العراة والنساء العراة. وأصبحت المعابد مرتعاً للإباحية، وأماكن يرتادها المفسدون.
أوروبا لا تستحم!
ونترك الروم والفرس والهنود ونذهب إلى أوروبا يقول أحد المؤرخين الغربيين: لم تشهد أوروبا فترة أسوأ في الجهل والأمية والحروب الدامية كتلك الفترة من القرن السادس الميلادي.. كانت أجسامهم قذرة لا يستعملون الماء في النظافة رؤوسهم مملوءة بالخرافات والأوهام، يكفي أن تشاهد أفلام الإغريق التي تؤرخ لتلك المرحلة لتذهل من كم الخرافات السائدة، وكان المثقفون الأوروبيون وقتها منشغلين بمناقشة قضية: "هل المرأة حيوان أم إنسان؟ وهل تسري فيها روح شيطان أم روح إنسان؟ وهل من حقها أن تمتلك أم أن الأصل هو امتلاكها هي نفسها؟
كانت المرأة في أوروبا ليس لها حق في الميراث.. ولم يكن هناك حد لتعدد الزوجات.. وهنا نريد أن نوضح أن الإسلام كان أول من وضع حداً للتعدد وجعلها أربعة بينما كان التعدد مفتوحاً آنذاك ولا سقف له.
أما الدين في أوروبا فكان زخماً من الخرافات والأساطير وانظر أفلام الإغريق لترى إلهاً للحب وإلهاً للحرب وإلهاً للسلم.
وثنية ووهم.. هذه هي الأرض قبل مائة عام من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذه هي صورة العالم عند مولده.. كانت الأرض كافرة بالله.. وكان الناس لا يعرفون الله أصلا، هل تتخيل النقلة التي انتقلت إليها البشرية؟.. يصف أحد المؤرخين هذه الفترة قائلا: "لم يشهد العالم في تاريخه أسوأ ولا أظلم ولا أكثر يأساً من المستقبل من هذه الفترة".
يقول المؤرخ الانجليزي الشهير "ويلز":
كانت أوروبا أشبه بجثة رجل ضخم، مات والجثة تعفنت"، هكذا يصف مؤلف كتاب "تاريخ الأخلاق الأوروبية" تلك المرحلة التي سبقت ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم... هل بدأنا نفهم لماذا قال الله تعالى "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
قبائل العرب المتناحرة
نتجه بالكاميرا بعد ذلك صوب الجزيرة العربية، لنرى حال العرب الذين سيخرج منهم النبي صلى الله عليه وسلم.. كان الوضع السياسي للجزيرة العربية يوضح أنها قبائل متفرقة، ولا توجد دولة، قبائل لا يجمعها كيان تتصارع وتتقاتل، وتُغير على بعضها، وليس لدى الناس أي إحساس بالأمان، لو قررت السفر وخرجت من منطقة قبيلتك، تأسرك قبيلة أخرى وتباع في سوق العبيد، مثلما حدث مع زيد بن حارثة، كانت أمه قد أخذته وخرجت للسفر لزيارة أعمامه. فخُطف منها في الطريق، وبِيع في سوق العبيد حيث اشتراه عم السيدة خديجة، الذي باعه للسيدة خديجة، التي باعته للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أعتقه النبي وسمّاه زيد بن محمد.
الناس في هذا الزمان كانت تخاف السفر، وكان يمكن أن تكون نائماً في حضن قبيلتك، ثم تصحو على قبيلة أخرى تغير على قومك وتقتل الرجال وتأخذ النساء سباياً وتستبيح أعراض من كُنّ حرائر حتى الأمس، وهذا شيء عادي في ذلك الزمان. لدرجة أن الشاعر العربي القديم يقول: "ونعتدي على بكر أخينا إن لم نجد إلا أخانا".
ثم يقول: "ومن لم يظلم الناس يظلم".. العدوانية كانت في دمائهم لدرجة أنهم إذا لم يجدوا أحداً يعتدون عليه، يعتدون على أخوتهم وأقربائهم.
دين الأمان
كانت القبائل جميعها تعاني من هذا الخوف، إلا قبيلة قريش.. لماذا؟ لأنها تعيش في مكة مسئولة عن الحرم، فلا أحد يعتدي عليها، وكانت هناك أحلاف تضمن لها هذا الأمان وذلك التميز.
ولهذا يقول الله تعالى: "أولم نُمكّن لهم".. أي أنك يا قريش كنت تعيشين في أمان بينما الناس من حولك خائفة، فكيف لا تؤمنين بالله تعالى الذي أعطاك هذا الأمان، والقبائل من حولك تعاني من الإغارة، وبيع الأطفال وسبي النساء والخطف والرعب.
والنبي حين بُعث كان يعد الناس بالأمان من الخوف، وبمستقبل أفضل "لتخرجن المرأة من الحيرة إلى البيت تسير وحدها لا تخشى إلا الله". وكان خروج المرأة وحدها لتذهب إلى الكعبة دون خوف، ضرباً من الخيال وقتها.
النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قادم به من أخلاق يعد المؤمنين بحل مشكلة الأمن الذي هو في أولوية الاحتياجات آنذاك، الدعوة إلى الله لا تركز على الصلاة والصوم فقط.
إنما على حل مشكلات الناس في البطالة والزراعة والتجارة، هذا جزء من ديننا "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ".
360 إلها في الكعبة!
لم تكن هناك دولة لها دستور وقوانين تحكم القبائل. وكانت الحروب مشتعلة لأتفه الأسباب سباق بالخيل بين قبيلتين نتج عنه حرب استمرت 40 سنة، مات فيها الآلاف، وكانت القبائل تلجأ للقوى الخارجية من الفرس والروم لنصرتها على القبيلة التي تناصبها العداء، تماماً كما يحدث اليوم.
امرؤ القيس حين قُتل أبوه، بحث بين القبائل عمن يساعده في الثأر لأبيه فلم ينصره أحد، فذهب إلى قيصر الروم ليستعين به على أبناء جلدته من العرب قبيلة الغساسنة وقبيلة المناذرة على حدود فارس والروم انسلختا من حيادهما العربي وأصبحتا خادمتين، لمصالح الفرس والروم، المناذرة يحمون فارس، والغساسنة يحمون الروم أقامتا حزاماً أمنياً لحماية الفرس والروم من غارات العرب.. هذا هو الوضع السياسي داخل جزيرة العرب.
أما الوضع الديني.. فقد كانت هناك مئات الآلهة من الأصنام التي تعبد.. كل قبيلة لها إلهها الخاص بها، قد يكون تمثالاً أو صخرة مربعة أو مستطيلة أو مدورة، وكان حول الكعبة 360 صنماً تمثل 360 إلهاً، وكان المسافر ينتقي له حجراً من الصحراء يتخذه إلهاً له يعبده طوال السفر، وحين يعود يرجع إلى عبادة إلهه الأصلي في البيت، لدرجة أن عمر بن الخطاب كان يعبد إلهاً من العجوة، وحين يجوع ليلاً يلتهم إلهه.. حين يسألوه بعد إسلامه: ألم يكن لديك عقل؟ فقال: لا والله كان هناك عقل ولكن لم تكن هناك هداية.
وكان العرب يحجون كل سنة إلى آلهتهم من الأصنام حول الكعبة ويسجدون لها، وكانوا يقولون كلمتهم الشهيرة التي ذكرها القرآن الكريم "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا".. أي أنهم كانوا يعرفون أن الله موجود، لكنهم يتقربون إليه بالأصنام "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله".